كيف يتوب العبد من ذنبه؟ وما هي دلائل أو علامات قبول التوبة من الله؟ وماذا أفعل لو لم أستطع الوصول إلى شخص أخطأت في حقه لأسترضيه؟
سؤال: كيف يتوب العبد من ذنبه؟ وما هي دلائل أو علامات قبول التوبة من الله؟ وماذا أفعل لو لم أستطع الوصول إلى شخص أخطأت في حقه لأسترضيه؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنه من المعلوم أن الله جل وعلا قد شرع لعباده التوبة والإنابة إليه وحثهم عليها ورغبهم فيها ووعد التائب بالرحمة والغفران مهما بلغت ذنوبه فمن جملة ذلك قوله جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) الزمر: 52-53. وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) البقرة: 222.
وباب التوبة مفتوح على مصراعيه، يقبل كل راجع إلى الله نادم على فعله. وفي حديث قاتل المائة نفس ما يدل على أن الفهم السديد لدى أولي العلم الأثبات على قبول التوبة من أي أحد، طالما تحققت شروطها.
وقد تضافرت دلائل الكتاب والسنة على وجوب التوبة، ولزوم المبادرة إليها، وأجمع على ذلك أئمة الإسلام رحمهم الله تعالى. إذا عُلم ذلك، فإن التائب لا يكون تائبا حقا إلا إذا توفرت في توبته خمسة شروط:
الشرط الأول: الإخلاص ـ وهو أن يقصد بتوبته وجه الله عز وجل.
الثاني: الإقلاع عن الذنب.
الثالث: الندم على فعله.
الرابع: العزم على عدم الرجوع إليه.
الخامس: أن تكون التوبة قبل أن يصل العبد إلى حال الغرغرة عند الموت. قال النووي في شرح مسلم (وللتوبة شرط آخر وهو أن يتوب قبل الغرغرة كما جاء في الحديث الصحيح وأما في حالة الغرغرة وهي حالة النزع فلا تقبل التوبة). فهذه الشروط فيما إذا كان الذنب بين العبد وربه، كشرب الخمر مثلاً. وأما إذا كان الذنب يدخل فيه حق العباد، فلا بد من إبراء الذمة من هذا الحق؛ فإن كان مظلمة استحلها منه، أو حقا رده إليه، بالإضافة إلى الشروط الخمسة الآنفة الذكر. إذا ثبت هذا فليعلم أن العبد إذا تاب ، فينبغي أن يكون حاله بين رجاء قبول التوبة، ومخافة العقاب من الله تعالى، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) المؤمنون: 60. وقد خرج الترمذي بإسناد ثابت أن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال: لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات. لكن لا مانع أن يكون هنالك أمارات على صدق توبة العبد يستأنس بها في ذلك؛ فمن ذلك أن العبد التائب يجد حرقة في قلبه على ما فرط منه في جنب الله، وأنه ينظر لنفسه بعين التقصير في حق الله الجليل، وأنه يكون أشد تجافيا عن الذنب وعن أسبابه، نائيا بنفسه عن هذه الموارد. ومن ذلك أنه يميل إلى الإقبال على ربه ومولاه، وأن يصاحب أهل الفضل والخير ويقاطع أصدقاء السوء ومن لا خير فيهم، وأن ينظر إلى توفيق الله له بالتوبة على أنه نعمة عظيمة من أعظم النعم عليه، فيفرح بها ويحافظ عليها ويخاف زوالها، ويخشى عقوبة نكثها.
واما عن رد المظالم إلى أصحابها فهو شرط من شروط التوبة كما ذكرنا؛ إذ لا بد من إبراء الذمة من صاحب الحق.
إن الذنوب التي تتعلق بحقوق الآدميين تحتاج في التوبة منها إلى التحلل من حق الآدمي، بجانب الإقلاع والندم والعزم على عدم العود، وإلا فان المظلوم سيأخذ حقه يوم القيامة، وقد وردت النصوص الشرعية الكثيرة بإثبات المقاّة بين العباد يوم القيامة فيما كان بينهم من المظالم، وأنه سيكون القضاء بالحسنات إن كان للظالم حسنات، وإلا فإنه يلقى عليه من سيئات المظلوم في الآخرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: إذا خلص المؤمنون من النار حُبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصّون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا نُقّوا وهُذّبوا أذن لهم بدخول الجنة. رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. رواه البخاري. وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة.. ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.
فهذه النصوص وأمثالها كثير تدل على أن المظلوم يلقى ظالمه، ويأخذ منه حقه لا محالة. ومن ثم فإن الواجب استحلال من ظلمهم المسلم بتعد عليهم، ولا تتم توبة هذا الشخص إلا باستحلال من آذاهم إن قدر على ذلك، فإن ترك التحلل من تلك المظالم مع القدرة فإن توبته غير تامة، ويخشى عليه من العقوبة في الآخرة وأن يقتص منه هؤلاء المظلومون، وأما من عجز عن استحلاله فالمرجو من لطف الله وكرمه أن يرضيه بما شاء من الأجر في الآخرة، وأن يتجاوز عن هذا الشخص لفعله ما يقدر عليه، وعليه أن يكثر من الاستغفار لهم والدعاء لهم بخير، وقد رجح ابن القيم رحمه الله أن القاتل إذا تاب توبة صادقة فإن الله يصلح بينه وبين المقتول ويرضيه بما شاء من الأجر.
قال رحمه الله: فَإِذَا سَلَّمَ الْقَاتِلُ نَفْسَهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا إِلَى الْوَلِيِّ نَدَمًا عَلَى مَا فَعَلَ، وَخَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَتَوْبَةً نَصُوحًا، سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ، وَحَقُّ الْوَلِيِّ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوِ الصُّلْحِ أَوِ الْعَفْوِ، وَبَقِيَ حَقُّ الْمَقْتُولِ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ عَبْدِهِ التَّائِبِ الْمُحْسِنِ، وَيُصْلِحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ هَذَا، وَلَا تَبْطُلُ تَوْبَةُ هَذَا.
وهناك من المظالم ما لم يصل إلى المظلوم فيضرّه، مثل من اغتاب شخصا ولم تصل الغيبة إلى الشخص المساء إليه، فالأولى عند أهل العلم ألا يخبره بما حصل؛ ولا يحزنه، وإنما على من اغتابه التوبة والاستغفار والدعاء بالخير له وذكره بين الناس بما يعلم فيه من خير. وكذلك إذا كان إخباره بالغيبة سوف يؤدي إلى القطيعة والهجران، فالأولى ألا يخبره، بل يستغفر الله له، ويتوب من ذنبه.
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله: ما يتعلق به حق آدمي: التوبة منه يشترط فيها أنه لا بد من إسقاط حق الآدمي, فإن كان مالا رده إن بقي، وإلا فبدله لمالكه، أو نائبه، أو لوارثه بعد موته، ما لم يبرئه منه، ولا يلزمه إعلامه به، فإن لم يكن وارث أو انقطع خبره دفعه إلى الإمام ليجعله في بيت المال، أو إلى الحاكم المأذون له التصرف في مال المصالح, فإن تعذر قال العبادي والغزالي : تصدق عنه بنية العزم. (الزواجر: 2/368)
والله تعالى أعلم.
المصدر: فتاوى متفرقة على موقعي (اسلام ويب، والإسلام سؤال وجواب)
()