يختار الله سبحانه المريض، ويختصه بذلك البلاء دون غيره، ويكون له أعظم الثواب مع الرضا والتسليم. وبعد فترة، ينقضي المرض ويزول الألم ويبقى الأجر.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
المرض منحة إلهية رغم ما فيه من محن وآلام.
يختار الله سبحانه المريض، ويختصه بذلك البلاء دون غيره، ويكون له أعظم الثواب مع الرضا والتسليم. وبعد فترة، ينقضي المرض ويزول الألم ويبقى الأجر.
ومن أروع ما كتب بديع الزمان سعيد النورسي في رسائله (رسائل النور) تلك الرسالة المعنونة بـ(رسالة إلى مرض ومبتلى)، نقطف بعض أزاهيرها في هذه المقالة:
يقول بديع الزمان مسلّيا المريض: أيها المريض العاجز! لا تقلق، اصبر! فإن مرضك ليس علّة لك بل هو نوع من الدواء؛ ذلك لأن العمر رأسُ مال يتلاشى، فإن لم يُستثمَر فسيضيع كل شيء، وبخاصة إذا انقضى بالراحة والغفلة وهو يحث الخطى إلى نهايته، فالمرض يكسب رأسَ مالك المذكور أرباحًا طائلةً، ولا يسمح بمضيّه سريعًا، فهو يُبطئ خطواتِ العمر، ويمسكه، ويطوّله، حتى يؤتىَ ثماره، ثم يغدو إلى شأنه. وقد ذهب طولُ العمر بالأمراض مثلًا، فقيل: ألا ما أطولَ زمنَ النوائب وما أقصر زمن الهناء!.
أيها المريض النافدُ الصبر! تجمّل بالصبر! بل تجمّل بالشكر، فإنَّ مرضك هذا يمكنه أن يجعلَ من دقائق عمرك في حكم ساعاتٍ من العبادة، ذلك لأن العبادة قسمان: الأولى، العبادة الإيجابية المتجسّدة في إقامة الصلاة والدعاء وأمثالها. الثانية، العبادة السلبية التي يتضرع فيها المصاب ملتجئًا إلى خالقه الرحيم مستجيرًا به متوسلًا إليه، منطلقًا من أحاسيسه التي تُشعره بعَجزه وضعفه أمام تلك الأمراض والمصائب. فينال بذلك التضرع عبادةً معنويةً خالصةً متجردةً من كل أنواع الرياء.
نعم، هناك رواياتٌ صحيحة على أن العمر الممزوجَ بالمرض والسقم يُعدّ للمؤمن عبادة على شرط عدم الشكوى من الله سبحانه. بل هو ثابت بعدة روايات صحيحة وكشفيات صادقة كون دقيقة واحدة من مرض قسم من الشاكرين الصابرين هي بحكم ساعةِ عبادة كاملة لهم، وكونُ دقيقة منه لقسم من الكاملين هي بمثابة يوم عبادة كاملة لهم. فلا تشكُ يا أخي من مرضٍ يجعل من دقيقة عصيبة عليك ألفَ دقيقة ويمدّك بعمرٍ طويلٍ مديد! بل كن شاكرًا له.
المرض إحسان إلهي: أيها المبتلى بالمرض! لقد توافرت لديّ القناعة التامة خلال تجربتي في هذا الزمان، بأنَّ المرض نوعٌ من الإحسان الإلهي والهدية الرحمانية لقسم من الناس. فقد التقاني بعضُ الشباب في هذه السنوات الثماني أو التسع، لمعاناتهم المرض، ابتغاء دعائي لهم، رغم أنى لست أهلًا لذلك. فلاحظت أن مَن كان منهم يعاني مرضًا هو أكثر تفكرًا في الآخرة وتذكرًا لها، وليس ثملًا بغفلة الشباب، بل كان يقي نفسَه إلى حدّ ما تحت أوجاع المرض وأوصابه، ويحافظ عليها من الشهوات الحيوانية. وكنت أذكّرهم بأني أرى أن أمراضَهم هذه، ضمن قابليتهم على التحمّل إنما هي إحسانٌ إلهي وهبة منه سبحانه. وكنت أقول: يا أخي! أنا لست ضد مرضك هذا ولا عليه، فلا أشعر بشفقة عليك ورأفة لأجل مرضك، كي أقوم بالدعاء لك، فحاول التجمل بالصبر والثبات أمام هذا المرض، حتى تتحقق لك الإفاقة والصحوة؛ إذ بعد أن ينهي المرض مهامَّه سيشفيك الخالقُ الرحيم إن شاء. وكنت أقول أيضًا: إنَّ قسمًا من أمثالك يزعزعون حياتهم الأبدية بل يهدمونَها مقابل متاع ظاهري لساعة من حياة دنيوية، وذلك لمضيّهم سادرين في الغفلة الناشئة من بلاء الصحة، هاجرين الصلاة ناسين الموت وغافلين عن الله عز وجل. أما أنت فترى بعين المرض القبرَ الذي هو منزلُك الذي لا مناص من الذهاب إليه، وترى كذلك ما وراءه من المنازل الأخروية الأخرى، ومن ثم تتحرك وتتصرف على وفق ذلك. فمرضُك إذن إنما هو بمثابة صحةٍ لك، والصحةُ التي يتمتع بها قسم من أمثالك إنما هي بمثابة مرضٍ لهم.
ساعات تساوي سنوات: أيها المسكين الشاكي من المرض! إنَّ المرض يغدو كنزًا عظيمًا لبعض الناس، وهدية إلهية ثمينة لهم. وباستطاعة كل مريض أن يتصور مرضَه من هذا النوع، حيث إنَّ الحكمة الإلهية اقتضت أنْ يكون الأجلُ مجهولًا وقتُه، إنقاذًا للإنسان من اليأس المطلق ومن الغفلة المطلقة، وإبقاءًا له بين الخوف والرجاء، حفظًا لدنياه وآخرته من السقوط في هاوية الخسران.. أي أن الأجل متوقع مجيئُه كل حين، فإن تمكّن من الإنسان وهو سادر في غفلته يكبّده خسائر فادحة في حياته الأخروية الأبدية. فالمرض يبدد تلك الغفلة ويشتتها، وبالتالي يذكّر بالآخرة ويستحضر الموتَ في الذهن فيتأهب له. بل يحدث أن يربّحه ربحًا عظيمًا، فيفوز خلال عشرين يومًا بما قد يستعصي استحصاله خلال عشرين سنة كاملة.
فعلى سبيل المثال: كان هناك فَتَيان يرحمهما الله أحدهما يدعى (صبري) من قرية (إيلاما) والآخر (مصطفى وزير زاده) من (إسلام كوي) ورغم كونهما أُميين من بين طلابي، فقد كنتُ ألحظُ بإعجاب موقعَهما في الصف الأول في الوفاء والصدق وفي خدمة الإيمان، فلم أدرك حكمة ذلك في حينها، ولكن بعد وفاتهما علمت أنهما كانا يعانيان من داءين عضالين، وبإرشاد من ذلك المرض أصبحا على تقوى عظيمة يسعيان في خدمة راقية، وفي وضع نافع لآخرتهما، على خلاف سائر الشباب الغافلين الساهين حتى عن فرائضهم. فنسأل الله أن تكون سنتا المرض والمعاناة اللتان قضياهما في الحياة الدنيا قد تحولتا إلى ملايين السنين من سعادة الحياة الأبدية.
والآن فقط أفهم أنّ دعائي لهما بالشفاء قد أصبح دعاءً عليهما من زاوية الدنيا، ولكن أرجو الله أن يكون دعائي مستجابًا لصحتهما الأخروية.
وهكذا استطاع هذان الشخصان حسب اعتقادي الحصولَ على ربح يساوي الكسب الذي يحققه الإنسان بالسعي والتقوى لعشر سنين في الأقل، فلو كانا متباهيَين بصحتهما كبعض الشباب وسائقَين لنفسيهما إلى شراك الغفلة والسفاهة حتى يأتيهما الموتُ المترصد، وهما يتخبطان في أوحال الخطايا وظلماتها، لكان قبراهما الآن جحورَ العقارب والأفاعي بدلًا من كونهما الآن دفائن النور وكنوز البهجة.
فما دامت الأمراض تحمل في مضامينها هذه المنافع الكبيرة فلا يجوز الشكوى منها، بل يجب الاعتماد على الرحمة الإلهية بالتوكل والصبر بل بالحمد والشكر.
()