عموماً كلّ الكلام صعب. وثمن العزّة ثقيلٌ ثقيل. نستسخف فعل الكتابة أمام هول المجازر. العجز مُخجل. تُقصفُ نصوصنا بمشهدٍ من مشاهد المحرقة الرهيبة في غزة، وفي لحظة غضبٍ مهول وتحسس للمسؤولية، يستجمع الحرف/الدم نفسه، ويسيل. عند كل هبّة أو انتفاضة فلسطينية، يخرج من يقول لك: ماذا بعد. بعضهم يقولها ببراءة حقيقية، وبعضهم بخبثٍ متناهٍ، وبعض آخر بـ”حذلقة” المنظّرين من علٍ. يطرحون المشكلة من باب استنزاف الدم الحاصل – خصوصاً الفلسطيني – في مقابل الانسداد السياسي، بل في مقابل التوسع الاستيطاني الإسرائيلي وتمدّد التطبيع على حساب شعب فلسطين وقضيته. وبعضهم يطرح السؤال من باب الخوف من ما بعديّات حركات المقاومة التي تحمل منطلقات الإسلام السياسي. وهذه النقطة لن يتطرق إليها هذا المقال برغم أهميتها.
ثمة نقاط يجب أن تسجل في إطار ضبط العزيمة ضبطاً منطقياً، لا سيما لأولئك الذين فرحت فطرتهم للإنجاز الذي حققته “كتائب القسام” بوصفها حركة مقاومة، ثم عادوا إلى نقطة الصفر، أي إلى التساؤل الخائب أعلاه، بعد مشاهد المحرقة الغزاوية: عمل فلسطيني ضخم مقابل قدرة اسرائيلية تدميرية هائلة، فماذا بعد؟ عملياً، أكثر من قرن وربع قرن على عمر المشروع الصهيوني المدعوم دولياً منذ مؤتمر بازل عام 1897.. وحتى وقتنا الراهن، لم يتمكن هذا المشروع من فرض هيمنته على الشعب الفلسطيني الذي لم يتوقف عن الانتفاض برغم كل المآسي التي لاحقته. قرن وربع قرن، عُرِضَ فيه على الشعب الفلسطيني أن يساوم، الشعب لا النخب السياسية، وبقي بجزئه الأكبر رافضاً لأي مساومة على حساب استرداد أرضه وبيته وحارته وزيتونه. الإرادة الرافضة للظلم ثابتة ومتجدّدة وتفاجئنا دوماً.
الفلسطيني صاحب حق. هو سلطان، فلا يزايدنّ عليه أحدٌ، ولا يضعنّ أحدٌ نفسه في مكانه. ببساطة التعبير الدارج، من لم تكن يده في النار لن يستطيع فهم أو تفهّم الواقع، وسيُنظّر بعيداً. ثمّ إن الخيبات السياسية من جهة وعدوانية المحتل من جهة ثانية، لطالما شكّلت وقود الانتفاضات وبعث الروح في القضية الفلسطينية من جديد. لولا الهبّات الفلسطينية لما بقي للحق من يطالب به ويصرّ عليه أصلاً، ولباتت إسرائيل فرضاً واقعاً مرتاحةً على وضعها وتطمع بالمزيد ميدانياً لا سياسياً فقط. انتفاضة الحجارة مثلاً عام 1987 والتي انطلقت في الأساس من حي الشجاعية في غزة تفجرت بعد أن شعر الفلسطينيون بأن العرب يتخلون عن القضية الفلسطينية على خلفية كامب دايفيد وتبعات الحرب العراقية الإيرانية. انتفاضة الأقصى عام 2000 تفجرت بعد اقتحام أرييل شارون للمسجد الأقصى.
هبة القدس عام 2021 بعد صفقة القرن. طوفان الأقصى 2023 يأتي بعد سلسلة من الانتهاكات للمسجد الأقصى.. ووضع العالم الإسلامي على سكة التطبيع السعودي الإسرائيلي! وبعد؛ لطالما أثبت الواقع ضعف الفكرة المنتقِدة للكفاح المسلّح بحجة التفاوت في ميزان القوى بين المحتل والمقاومات. التجربة في جنوب لبنان مثال صارخ. والتجارب مع الاستعمار مثلاً أفضت إلى نتائج تدحض النطرية السابقة. بالإرادة وحتى باتباع أسلوب الحرب غير المتكافئة استطاعت قوى التحرر الوطني أن تُحسّن ميزان القوى تدريجياً حتى وصلت إلى اللحظة التاريخية التي أفضت إلى جعل تكلفة الاحتلال عالية إلى الحد الذي لا يمكن للقوى الاستعمارية تحملها. حصل ذلك مثلاً في النموذج الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. في جنوب اليمن ضد الاستعمار البريطاني، إلخ..
ثمة لحظة تاريخية وظرف موضوعي تفشل فيه النخب الحاكمة المحتلة في الاستجابة الصحيحة للتحولات التي تطرأ على الأرض، فتضطر إلى تغيير سلوكها. ولكن، وزبدة القول هنا أنه عوضاً عن البحث في سؤال ماذا بعد الانتفاضات، علينا أن نسأل، ماذا بعد السلام؟ ثلاثون عاماً على اتفاقيات أوسلو ولم تحقق شيئاً. على العكس من ذلك تماماً، فقد قدّم الطرف الفلسطيني الرسمي الكثير من التنازلات عملياً، لكنه لم يحصل في المقابل على شيء إطلاقاً، بل المزيد من الاستيطان والتهويد، إلى حدّ أن بنيامين نتنياهو رفع في أيلول/سبتمبر الفائت خريطة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لا وجود فيها لدولة فلسطينية، حيث طغى اللون الأزرق الذي يحمل كلمة إسرائيل على خريطة الضفة الغربية المحتلة كاملةً، بما فيها قطاع غزة. خريطة تثبيت مكاسب التطبيع وما ستفرضه من شرق أوسط جديد!
لم يلمح نتنياهو إلى شيء اسمه القضية الفلسطينية.. الكلام كله عن السلام مع العرب، من دون مقابل. كلّ مقابل يُذكَر هو ضحكٌ على اللحى. يطالب العرب بحل الدولتين ـ ومعهم أميركا البايدنية ـ فيما يرفضه الطرف الإسرائيليّ أصلاً. فشل العرب تاريخياً في الحلول العسكرية، فراحوا يُبرّرون عجزهم بالتنازلات ودائماً بطعم التكتيك الرابح.. مسار يتدحرج منذ نكسة الـ 1967 مروراً بكامب دايفيد وأوسلو واتفاقية السلام مع الأردن وصولا إلى موسم إتفاقات ابراهام الأخير.. لا شيء يتفوه به العرب سوى “الحلول الدبلوماسية”. ممتاز. لكن، وبالمنطق السياسي، هل يمكن تحقيق أي إنجاز سياسي من دون قوة عسكرية؟ أي مشروع سياسي من دون رصيد القوة العسكرية لن يكون سوى ذرّ رمادٍ في العيون وضحك على الشعب الفلسطيني المتألم. هل سيتنازل الطرف الإسرائيلي عما قضمه واستوطنه واحتله هكذا ببلاش! كيف يطالب العرب بفكرة حل الدولتين وهي فكرة لا تمتلك أدوات التطبيق أصلاً؟ امتلاك أدوات التطبيق يجب أن يسبق الطلب، والأدوات هنا ليست سوى القوة العسكرية. قوة الردع. إقرأ على موقع 180 بوتين يحدد مهمات 2020 العسكرية: الخطر يقترب!
لم يُقدّم الطرف الإسرائيلي يوماً أي تنازل إلا تحت ضغط القوة. هذا هو الواقع.. ثم يأتيك أحدهم، كالمؤرخ يوسف زيدان والذي يُقدّم لك فهمه العميق للتاريخ وقراءته للمستقبل ويطالعنا بما اختصاره: أنتم يا palesto يا فلسطينيين يا همج يا أصحاب أرض صحراء وأنتم يا اسرائيليين يا حضاريين يا متعلمين.. عيبٌ عليكم أن تمارسوا الحروب في أرض كنعان أرض الديانات، اجلسوا سوياً وأحبوا بعضكم بعضاً وعيشوا بسلام. هكذا ببساطة. كلام فيه الكثير من التجهيل والتبسيط ولا إمكانية لتقريشه سياسياً. هو يزخّم فكرته إلى مستوى النخبة والتاريخ والعمق الحضاري ويفرد محاضرات تحت مسمى عام اليهوديات ثم يخلص إلى حلّ حضاري لا إمكانية لتطبيقه أصلاً: “ليس هناك مخرج إلا حل الدولتين” مؤقتًا، ثم “الدولة الواحدة” مستقبلًا .. وإلا سوف يستمر القتل، ويستمر السفك، ويستمر الفتك بالأقرباء الأبرياء وغير الأبرياء”. كتب زيدان هذا تعليقاً على الأحداث الأخيرة.
زيدان نفسه كان قد علّق على “طوفان الأقصى” بقوله: “لا أرى جديدًا فيما يجري بأرض كنعان، فما هي إلا حلقةٌ أخرى من حلقات المأساة الأزلية الأبدية.. “. هذا منطق زيدانيّ يتبناه كثر في العالم العربي. لم يرَ يوسف زيدان في إنجاز “طوفان الأقصى” جديداً، فيما تزخر الصحافة الإسرائيلية بمقالات تُقرُّ أنها أسوأ نكسة حلّت بالكيان منذ العام 1948، وغير ذلك من الكتابات التي تعترف بالهزيمة العسكرية الأمنية، عدا عن الخسائر الكبيرة التي يتكبدها الاقتصاد الإسرائيلي منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتداعيات إنهيار “الجدار” وأنظمة التجسس (ولا سيما بيغاسوس) والقبة الحديدية، وغيرها مما يندرج في خانة “فخر الصناعة الإسرائيلية”! إن عملية “طوفان الأقصى” بما حقّقته من انجازات عرّت منطق الإنهزام الزيداني بشكل كامل، وهذا ما لمسناه من خلال الخطاب المستجد لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والعديد من رموز منظمة التحرير في الخارج. هذا الأمر لم ينسحب على الطرف الفلسطيني فقط، ثمة أجواء مستجدة يمكن لحظها. لبنانياً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان موقف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط لافتاً للإنتباه وأيضاً ملاقاته بالتحية ذاتها من قبل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله..
لقد أحرج “طوفان الأقصى” كثيرين، ووضعهم في موقعٍ مغاير وفي ذهنية مغايرة للتعاطي مع الأحداث، وهذه إيجابية يجب أن تُسجل، برغم أن منطق الخذلان العربي ما زال أقوى من الشجاعة الفلسطينية، للأسف. و”ماذا بعد”، يسأل الناس؟ في حين نقرأ نصوصاً ونشاهد دفقاً من مقاطع الفيديو من قلب غزة العزة، فإن إسرائيل لا تملك سلاحاً سوى القتل والتدمير. بالمقابل، يشعر أبناء غزة والضفة والقدس وكل الشتات أن “حماس” سلّفتهم الكثير الكثير في السابع من تشرين، وبالتالي صار الإستشهاد اليوم له قيمته ومشروعيته كجزء من مقاومة المحتل. أهل غزة لن يتركوا أرضهم وبالتالي لن يعيدوا نكبة العام 1948. شعب غزة يزداد غضباً وصموداً، ويعطينا قوّة رهيبة في اللحظة ذاتها التي نبكي فيها مأساته. شعبٌّ يمدّنا بالصلابة، ويُذكّرنا بأن الطرف الإسرائيلي في كل مرة قال فيها أنه سيقضي على “حماس” يُمنى بالفشل. “طوفان الأقصى” لم يهزم إسرائيل فقط، مهما دمّرت وقتلت وهجّرت، بل هزم منطق الكثيرين من العرب، وهذا هو الحدث الذي لا عودة عنه. حدثٌ مؤسس. وسيؤسس حتما .
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *