كان حصار المسلمين في شعب أبي طالب هو أول عمل جماعي تنفذه قريش ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهي وسيلة لا يقوم بها إلا ذو القلب القاسي الذي لا يرحم شيخا كبيرا، ولا طفلا رضيعا، ولا امرأة ضعيفة. ولم تكن المقاطعة لخصوم وأعداء وأغراب، بل كانت لأبناء عمومة وخؤولة وأصهار وذوي أنساب.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا أَصَابُوا بِهِ أَمْنًا وَقَرَارًا، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ، فَكَانَ هُوَ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ الْإِسْلَامُ يَفْشُو فِي الْقَبَائِلِ، اجْتَمَعُوا وَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِيَّ الْمُطَّلِبِ، عَلَى أَنْ لَا يُنْكِحُوا إلَيْهِمْ وَلَا يُنْكَحُوهُمْ، وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا، وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ، ثُمَّ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَّقُوا الصَّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
لقد ذهب الكبر عن اتّباع الحق بقريش كل مذهب، وطاشت أحلامهم إذ قطعوا الأرحام وعادوا ذوي القربى، ولم يرحموا الضعيف والمسكين، وهم سدنة البيت الذين تفزع إليهم الناس، ويُفترض فيهم أنهم أهل القِرَى والقربة والمرحمة للغريب قبل القريب.
ولم يقف مع أهل الشعب من المسلمين سوى أبي طالب صاحب النخوة والحماية وبني هاشم عائلة النبي ﷺ الذين وقفوا مع المسلمين ومنعوهم وحالوا بينهم وبين مشركي مكة، ولم يتخلف منهم غير الشقي أبي لهب.
ولقد طال باهل الشعب البلاء حتى قارب ثلاث سنوات، عانى الناس فيها من المجاعة وأصابهم جهد البلاء. وكان لا يصلهم شيء إلا خفية من بعض ذوي النخوة والشهامة ممن أراد صلتهم من قريش.
لَقِيَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ ابْن أَسَدٍ، مَعَهُ غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا يُرِيدُ بِهِ عَمَّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمَعَهُ فِي الشِّعْبِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ وَقَالَ: أَتَذْهَبُ بِالطَّعَامِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ؟ وَاَللَّهِ لَا تَبْرَحُ أَنْتَ وَطَعَامُكَ حَتَّى أفضحَك بِمَكَّة. فَجَاءَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ ابْن هَاشِمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسد، فَقَالَ: مَالك وَلَهُ؟ فَقَالَ: يَحْمِلُ الطَّعَامَ إلَى بَنِي هَاشِمٍ، فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: طَعَامٌ كَانَ لِعَمَّتِهِ عِنْدَهُ بَعَثَتْ إلَيْهِ فِيهِ، أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا؟! خَلِّ سَبِيلَ الرَّجُلِ، فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ حَتَّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَخَذَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَحْيَ بَعِيرٍ فَضَرَبَهُ بِهِ فشجّه، ووطئه وطأ شَدِيدًا، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابَهُ، فَيَشْمَتُوا بِهِمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسِرًّا وَجَهَارًا، مُبَادِيًا بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَتَّقِي فِيهِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ.
وشاءت إرادة الله مع هذا الكرب أن يأتي الفرج، وأن تتحرك ضمائر أصحاب النجدات من أشراف قريش لما رأوا أن الأمر قد تجاوز حدود الإنسانية العاقلة إلى ضرب من الإيغال في الشدة على قوم كل جرمهم أنهم أسلموا وجوههم لله، وهجروا عبادة الأوثان.
قام على رأس أهل النخوة رجل يسمى هشام بن عمرو بن ربيعة (وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَخِي نَضْلَةَ بْنِ هَاشِمِ ابْن عَبْدِ مَنَافٍ لِأُمِّهِ، فَكَانَ هِشَامٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَاصَلًا، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ، فَكَانَ يَأْتِي بِالْبَعِيرِ، وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعْبِ لَيْلًا، قَدْ أَوْقَرَهُ (أي ملأه) طَعَامًا، حَتَّى إذَا أَقْبَلَ بِهِ فَمَ الشِّعْبِ خَلَعَ خِطَامَهُ مِنْ رَأْسِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى جَنْبِهِ، فَيَدْخُلُ الشِّعْبَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَأْتِي بِهِ قَدْ أَوْقَرَهُ بُرَّاً، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ.
ولم يقف صاحب النخوة عند هذا الحد، وقد فعل ما في الوسع، ولا سيما وقريش تهدد الواصل لأهل الشعب بعظائم الأمور. قال ابن إسحاق: مَشَى هِشامُ إلى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّة (من بني مخزوم)، وَكَانَتْ أُمُّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا زُهَيْرُ، أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطَّعَامَ، وَتَلْبَسَ الثِّيَابَ، وَتَنْكِحَ النِّسَاءَ، وَأَخْوَالُكَ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، لَا يُبَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَلَا يَنْكِحُونَ وَلَا يُنْكَحُ إلَيْهِمْ؟ أَمَا إنِّي أَحْلِفُ باللَّه أَنْ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ (يعني أبا جهل)، ثُمَّ دَعَوْتَهُ إلَى مِثْلِ مَا دَعَاكَ إلَيْهِ مِنْهُمْ، مَا أَجَابَكَ إلَيْهِ أَبَدًا، قَالَ: وَيْحَكَ يَا هِشَامُ! فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْتُ فِي نَقْضِهَا حَتَّى أَنْقُضَهَا، قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ رَجُلًا قَالَ: فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: أَبْغِنَا رَجُلًا ثَالِثًا.
فذهب هشام إلى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ فأجابه، ثم ذهب إلى أَبِي الْبَخْتَرِيِّ بْنِ هِشَام فأجابه، ثم ذهب إلى زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ فأجابه، حتى أصبحوا خمسة في وجه صلف قريش وقطيعتها.
يقول ابن هشام: فَاتَّعَدُوا خَطْمَ الْحَجُونِ (أي مدخل منطقة الحجون بمكة)، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ. فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَتَعَاقَدُوا عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّحِيفَةِ حَتَّى يَنْقُضُوهَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَتَكَلَّمُ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى أَنْدِيَتِهِمْ، وَغَدَا زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَنَأْكُلُ الطَّعَامَ وَنَلْبَسُ الثِّيَابَ، وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى لَا يُبَاعُ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَاَللَّهِ لَا أَقْعُدُ حَتَّى تُشَقَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الْقَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ: كَذَبْتَ وَاَللَّهِ لَا تُشَقُّ، قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ: أَنْتَ وَاَللَّهِ أَكْذَبُ، مَا رَضِينَا كِتَابَهَا حَيْثُ كُتِبَتْ، قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: صَدَقَ زَمْعَةُ، لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَلَا نُقِرُّ بِهِ، قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ: صَدَقْتُمَا وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ مِنْهَا، وَمِمَّا كُتِبَ فِيهَا، وقَالَ هِشَامُ ابْن عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلِ، تُشُووِرَ فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ. وَأَبُو طَالِبٍ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَامَ الْمُطْعِمُ إلَى الصَّحِيفَةِ لِيَشُقَّهَا، فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا، إلَّا بِاسْمِكَ اللَّهمّ.
لقد أنبت الله بقدرته تلك الأزهار في صحراء مكة القاحلة ليهذبوا من غلوائها، وليخففوا عن أهل الشعب من المسلمين المستضعفين، ومن بني هاشم أصحاب النخوة الذين انضموا إلى رسول الله وأصحابه في الشِّعب.
وفي كل صحراء قاحلة يبعث الله من يحمل الماء للمستضعفين.
وفي كل مفازة يبعث الله المنقذ لأهل الإيمان.
وإن صحراءنا اليوم على طول مفازتها، وتعدد صور بلواها وهي تصارع الظلم وأهله، على موعد مع من يحمل الماء والقِرى مثل هشام وحكيم والمطعم وزمعة وأبي البختري..
ولن يتوقف المدد لأهل الإسلام وإن رماهم الظالمون عن قوس واحدة، لأن يد الله فوقهم، وتصاريف الأقدار دائرة عليهم، وتباشير الأمل الرباني ينفح شذاها قلوب المؤمنين.
والحمد لله رب العالمين. ()
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *