الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين..
ظل الإسلام طوال أربعة عشر قرنا يقدم عطاءات حضارية متنوعة..
على مستوى الفكر والثقافة..
وعلى مستوى التشريعات والقوانين..
وعلى مستوى حقوق الإنسان وكرامته وحريته..
وعلى مستوى الحكم وسياسة المجتمعات..
وعلى مستوى التكافل والتراحم في المجتمعات..
وعلى مستوى الأسرة والروابط الاجتماعية..
وعلى مستوى التنظيم الاقتصادي والمالي..
وعلى مستوى الجيوش وأخلاق الحرب والسلم..
وعلى مستوى العلاقات الدولية والإنسانية..
ظلت الحضارة الإسلامية تقدم تلك العطاءات عبر قرون متطاولة.. وعبر مساحة تشمل العالم المعمور كله..
فلا ينسينكم يا شباب الأمة ما حلّ بنا اليوم (وهو عرض طارئ لا ريب) حضارتنا العظيمة وما تملكه من مقومات جعلت العالم واحة من الأمن والأمان والكرامة والرخاء.
كم شقي هذا العالم عندما تحول إلى غابة يعدو القوي فيها على الضعيف، وتتحول قلة من أفرادها إلى أرباب يحكمون ويشرّعون، وأغلبية إلى عبيد يُستعبدون ويطيعون.
وكم ارتكس الإنسان في جاهلية مقيتة وسلّم عقله للأساطير والخرافات، بل عبد الأوثان والأشجار والنجوم التي لم تكن لتغني عنه شيئا، ولا نفع ولا ضر يرتجى منها.
وهناك موجات عاتية من الإلحاد والزهد في معرفة الإله الحق، والتمحور حول الإنسان؛ إذ هو سيد نفسه من هذا المنظور، رغم أن الآيات في نفس ذلك الإنسان شاهدة على أنه بناء معجز وتركيب بديع لا يمكن أن يكون ذا عقل سديد إلا بالتسليم لخالقه وصانعه.
إن الإسلام بادئ ذي بدء يرتقي بالإنسان فكريا وروحيا؛ إذ يضع له الإجابات الواضحة حول الأسئلة المصيرية: من الذي خلق الكون؟ ولماذا خلق الكون ومكوناته؟ وما مصير كل الكائنات؟ وهل هناك حياة بعد الموت؟
كل هذه الأسئلة خاضت فيها الفلسفات المادية فلم تصل إلى إجابة نافعة أو مقنعة، لأن الأمر ببساطة ليس خاضعاً لقدرات العقل البشري المحدودة، بل فوق تصورات العقل، وهو ما يسمى بالميتافيزيقا، أو ما وراء الطبيعة. لا يستطيع الإجابة عن تلك الأسئلة إلا خالق الكون ومدبر أمره والمتصرف فيه.
إن البشرية التي تدّعي اليوم تقدما ماديا علميا غير مسبوق تحتار في أمر جائحة مثل كوفيد 19، فلم تتنبأ به، ولم توقف تداعياته المدمّرة على الاقتصاد العالمي.. ولا يستطيع أحد أن يقرأ الغيب أو يتنبأ بالزلازل والبراكين والكوارث الطبيعية: كيف تحدث، ومتى؟ .. إنها بعض مظاهر القدرة الربانية والقهر الإلهي على بني البشر ليكون ذلك عبرة وداعيا إلى التفكر في آلاء الله بطريقة تؤدي إلى الافتقار إليه والتسليم له.. لكن واحسرتاه على عالمنا الذي تعيش فيه مليارات البشر وأغلبها معرض عن معرفة رب الكون وخالقه، والحقوق الواجبة له.
إن أسئلة الكون الكبيرة التي عجز عنها الفلاسفة العظماء قدمها الوحي الإلهي، وتنطق بها آيات القرآن، ويعرفها المسلم العامي معرفة دقيقة لم يصل إليها العلم البشري بعد.
جاء الإسلام لينعش الفكر الإنساني، ويعيد هذا العبد الشارد إلى عقله، ويعيد ترتيب فكره ليرى الكون من حوله. بل إنه قد بنى له منظومة من العلاقات مع نفسه ومع الكون ومع الحياة من حوله.
إن البشرية تقر بالفعل أو بالقوة أن هناك مدبرا موجودا لهذا الكون العجيب، كما يقرر الكتاب العزيز ذلك في قوله تعالى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) الرعد: 15.
ويعرف المسلم أن هذا الكون بكل موجوداته من خلق الله تعالى، اتجهت إرادته إلى كونه فكان، ثم أودعه الله سبحانه قوانينه التي يعمل بها ويتحرك، وتتناسق بها حركات أجزائه فيما بينها (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يس: 40، وحركات الكون محسوبة ومقدّرة تقديرا دقيقا (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) الفرقان: 2
والإنسان جزء من هذا الكون الفسيح، وقد خلقه الله بيده في أحسن تقويم، وجعله خليفته في أرضه، واختصه بميزات فُضّل بها على سائر المخلوقات، وخلقه لغاية واحدة هي توحيده وعبادته بالمعنى الشامل للعبادة من خلال تعمير ذلك الكون ودلالة الناس على خالق الكون (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات: 56
والحكمة من خلق السماوات والأرض والأكوان كلها هي معرفة الله سبحانه والعلم بصفاته وكمالاته (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) الطلاق: 12.
والمسلم يتميز أيضا بمعرفة ما يصير إليه بعد الموت، ومطّلع على جانب من علم الغيبيات من خلال ما أذن الله له بالاطلاع عليه في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهي أمور لا سبيل إلى معرفتها بالعقل أو الحدس أو التجربة أو أي مصدر للمعرفة كان.
ويبني الإسلام بذلك عقل المسلم بناءً علميا منهجيا سليما بعيدا عن الدجل والخرافة؛ إذ يبين له أولا ما لا سبيل إلى علمه بالعقل البشري، ويدعوه ثانيا إلى التفكر في آيات الكون المنظور وما فيه من دلالات على قدرة الخالق سبحانه (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) العنكبوت: 20، ويدعوه في آيات كثيرة إلى إعمال عقله وفكره، وتتكرر الدعوات: أفلا تعقلون، أفلا تتفكرون، أفلا تذكرون….
إن كل هذا التميز المعرفي الذي حازه العقل المسلم فرّغ ذلك العقل وكرّمه وأبعده عن اتباع الشطحات الفلسفية والخرافات والأوهام. وكانت النتيجة لذلك أن تفرّغ ذلك العقل للإبداع والإنتاج في كل المجالات، فقامت حضارة إسلامية إنسانية سامقة تنشر الخير في ربوع العالمين، وهيمنت بكل مقوماتها الإنسانية وعطاءاتها الراقية على العالم كله عبر قرون طويلة.
لنا كل الفخر أننا أبناء تلك الحضارة، وأتباع ذلك الدين العظيم، فالحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة.
ونسال الله أن يجعلنا ممن يشكرون النعم بأداء ما يجب عليهم، فيدلّون الناس على الإسلام بما فيه من عدل ومرحمة وسماحة ومعرفة نقية، ويدعون البشرية إلى التماس طريقه لتنصلح احوالها دنيا وأخرى.
والله المستعان، والحمد لله رب العالمين. ()
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *