الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.. وبعد..

فقد يعقوب عليه السلام ولديه، واحدا تلو الآخر..

وأناخ عليه الزمان بكلكله..

وغرق في بحر من الهموم أليم..

وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم..

 لامه بنوه وأهله على طول أساه وشكواه..

فما كان منه إلا أن قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله..

وما كانت شكواه شكوى العاجز الذي لا حيلة له..

بل شكوى من تعلق بمولاه فوثق بما عنده..

نادى في بنيه: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ) يوسف: 87

ابحثوا عن أخويكم بكل حواسّكم، وجدّوا في الطلب..

ابحثوا بكل ما تملكون من قوة

ابحثوا وأنتم موقنون أنكم واجدو يوسف وأخيه.

ابحثوا وتحسّسوا.. ولا تيأسوا.. من روح الله

قرئت (رَوح) بفتح الراء، وهو الفرج والتنفيس.

وقرأ الحسن وقتادة: (رُوح) بضم الراء، وهي رحمة الله التي يحيا بها العباد. (روح المعاني للألوسي)

وما أسعد المرء حين يكون سعيه وبحثه مكللا بفرج الله ورحمته.

إن الإيمان بالله ينهانا عن اليأس، كما ينهانا عن التوقف عن السعي، ويعدنا بالفرج والرحمة.. وإنها لوصية عظيمة تغمر القلب المؤمن فتزيح عنه الهموم، وتدفعه إلى عمل بلا كلل ولا ملل.

********

أيها الأخ الفاضل والأخت الفاضلة .. أيها الابن الغالي والبنت الغالية

هل تتألّمون لما آل إليه حال المسلمين؟

هل ترون أمتكم أمة ضعيفة رغم ما بين أيديها من عوامل القوة والمنعة؟

هل ترون تسلّط الأمم على أمتكم.. يتحكمّون في قراراها.. ويفتنون شبابها ويصرفون الأكثرية من أبنائها وبناتها عن دينهم وقيمهم وأخلاقهم؟

نعم .. هذا، وبكل أسف، ما نراه جميعا اليوم..

دماء هنا .. وصرخات هناك.. ولا مغيث ولا مجيب..

وتذوب القلوب حسرة على ما آلت إليه أحوالنا..

وآلمني وآلم كلَّ حرّ … سؤالُ الدهر أين المسلمونا

*****

وحينما نقلّب النظر في تاريخنا المجيد

نجد حضارة عظيمة بسطت ظلالها على كل العالم المعمور..

وعاش تحت حمايتها البشر جميعا على اختلاف أعراقهم واجناسهم وأديانهم..

ووجدت البشرية فيها الترياق لكل أدوائها..

وكنّا وكان الناس..

يتساءل الخائفون عليها والتوّاقون إلى عودة عافيتها وأمجادها: ماذا جرى؟

ومن الذي أسقط أمتنا في ذلك الجب المظلم؟

وما المخرج من تلك الوهدة الحاضرة والمحنة الكاسرة؟

*****

الخطوة الأولى التي لا يستقيم الإيمان إلا بها، ولا ينشط المؤمن من غفلته إلا باتباعها، هي ترك اليأس والقنوط (فهما قرينا الهم والغم)، والنفخ في روح البشرى والأمل، فهما الدافع إلى العمل بلا كلل.

وإنها وصية يعقوب عليه السلام التي حكاها القرآن: ( إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف: 87، ووصية إبراهيم عليه السلام (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ) الحجر: 56

وكيف يحيا المسلم بين الضلال والكفران؟

كان النبي ﷺ في غزوة الخندق يضرب الصخرة العظيمة بمعولِه، وقد أصابه وأصحابه الجهد الجهيد، والأعداء منهم على مرمى حجر.. ولكنه يبعث في النفوس الأمل والبشرى.

ولندع البراء بن عازب t يحدثنا: لما كان حين أمرنا رسولُ اللهِ ﷺ بحَفْرِ الخَنْدَقِ عَرَضَتْ لنا في بعضِ الخَنْدَقِ صخرةٌ لا نأخذُ فيها المَعَاوِلَ، فاشتَكَيْنا ذلك إلى النبيِّ ﷺ ، فجاء فأخذ المِعْوَلَ فقال : بسمِ اللهِ، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال : اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال: اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال: بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ.  أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والبيهقي في دلائل النبوة، وإسناده حسن.

ولقد كانت تلك الكلمات فيصلا للتفرقة بين المؤمنين والمنافقين..

قال المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا..

وقال المؤمنون: قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمً. الأحزاب: 22.

فماذا كانت النتيجة؟

لقد فتح المسلمون كل شبر بشّر به النبي ﷺ.. وأغلب الفتوح كانت بعد وفاة صاحب البشرى ﷺ بسنوات.

إن القلب المؤمن متعلق بالله، مؤمّل في رحمته وفرجه مهما ضاقت عليه الدنيا وتكالب عليه الأعداء.

وإنها لوصية عظيمة ينبغي للمؤمن أن يرددها بقلبه صباح مساء، وأن لا يتوقف عن السعي وتحسس معالم الفرج والرحمة والنصر: (فتحسّسوا) من يوسف وأخيه (ولا تيأسوا) من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

()